صديقي الذي يعمل في مشفى صحي عام حكى لي بالأمس قصة ذلك الرجل الكبير الذي دخل المستشفى.. ثم أقبل على مركز المرضى ودلّى رأسه بكل ثقة يقول: أنا أتيت في شأن الأنثى.. ويشير جهة النساء ليخبر أن معه قريبته التي قد تكون زوجته أو أخته أو.. الخ، بيد أن كل ما استطاع ذلك الرجل أن يقوله هو بأنها "أنثى" على حد تعبيره.. وهو يفعل كل هذا تهرباً من إثبات صلة قرابة معينة، أو تهرباً من ذكر أية تفاصيل، ومع أني أثق بأن هذا نموذج غير مألوف لسوء معاملة المرأة، إلاّ أني سأتخذ هذه القصة النموذج مدخلاً للحديث عن إثم تاريخي واجتماعي قد مورس ضد المرأة التي حرّم الإسلام وأْدها وحاربه، غير أن هناك من لا يزال يمارس وأدها معنوياً وأخلاقياً..
وحين أقول: إن هناك "أنثى ضد الأنوثة"، فإني أصنف نوعية أخرى ترى الأنوثة إشكالية عضوية تحاول أن تعالجها بمشرط الجراح المبتدئ الذي قد يرتكب خطأً طبياً يلغي شعور إنسان، وأظنه سيبدو غريباً حين أصنف نوعاً من الدعوات النسوية بهذا الإطار؛ فبعض تلك الدعوات لم تكن لتقارع من أجل حقوقها بقدر ما كانت تناضل لتصبح رجلاً!
الأنثى في القصة الأولى.. مخلوق ناله التبخيس من الذكر بسبب أنوثته وتسلّط الذكر عليه، وهذا دون شك ظلم أخلاقي واجتماعي، والأنثى في القصة الثانية.. مخلوق.. ناله التبخيس بسبب سحق الأنثى لأنوثتها وتسلطها على نفسها، وهذا في تقديري ظلم أخلاقي واجتماعي آخر.
نوال السعداوي.. الكاتبة الطبيبة المصرية، منذ طفولتها بحسب تعبيرها "عانت من عقدة الذكر، فأرادت أن تصبح مثله، حتى عضوياً، وكانت تتمنى ذلك"، غير أن هذا لم يحدث فبقيت أنثى موبوءة بالأنوثة.. وأحرقت عمرها في الدفاع عن الأنثى بالمقلوب.
هذه العقدة النفسية لا ينبغي أن تكون دعوة فكرية ولا حركة ذات طابع جدي.. ولهذا الشأن قررت العبث بأفكارها في سطوري هنا.. لأقول بأنها أنثى ضد الأنوثة -كما يقول جورج طرابيشي- أو ضد نفسها.. ولأني سأتحدث عن "نوال السعداوي" فينبغي عليّ أن أتقدّم للسادة القرّاء بالاعتذار مقدماً عن العبارات الصفيقة التي أنقلها.
كيف وُلدت هذه العقدة؟ تقول في حالة أهلها حين ولادتها- حسب رواية جدتها-: "أطلّت من الباب الموارب لترى الرأس الصغير محشوراً في.. يرفض الخروج إلى الدنيا. رأس ناشف، عنيد صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل، مستدير مثل الكرة الأرضية متوقف في... المتّسع على شكل دائرة بحجم قرص شمس حمراء بلون الدم".
نوال.. هي هذا الرأس الأسود بلون الليل.. كيف خرج فتكمل: "مع الصرخة القوية المنطلقة من بطن الأم خرج الرأس الأسود الصلب. توقف عند منتصف العنق متردداً بين الدخول والخروج..".. واستطردت تصف تفاصيل ميلادها بشكل غريب الدقة، إلى درجة أن ذلك يوحي لك بأنها شهدت ميلادها بنفسها، وأنها كانت تقف قبالة نفسها متشبثة بالقلم، تصف كل تلك التفاصيل، وترسم اللوحة بكل شفافية وعبقرية! ولن أقول بأنها تكذب في كل ذلك؛ لأنها أسندت على جدتها المسكينة العجوز، وتلك العجوز قد ماتت في غابر الأولين.
سِتّها الحاجة تقول: "ياريتها كانت ولد"، وعمَّتها رقية ترفع يدها نحو السماء تقول: "يارب تقلبها ولد"، وترد عليها الحاجة: "ربنا قادر على كل شيء".. ثم تعلق: "كنت أتطلع نحو السماء أخشى أن يكون باب السماء مفتوحاً، وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرة إلى السماء، وأنني سأصحو في الصباح، لأجد لي مثل الذي عند أخي"!
كانت لا تستطيع النظر إلى نفسها، تخشى من الخزي.. هذا ما قالته.. بيد أني أظنها تخشى من الأنوثة.. وتخشى من نفسها.. ألم أقل بأنها أنثى ضد نفسها..؟!
هي تكره أنوثتها وعمتها وخالتها.. والإناث من حولها، حسناً لنرَ كيف تكون!!
نوال في بداية شبابها أصبح لديها القدرة المتميزة على "تطفيش كل عريس" حسب حديثها، فمن قائل: "بسبب بشرتها السمراء، ومن قائل بسبب عضلاتها القوية المخالفة لطباع الإناث، ومن قائل فمها الواسع أو الأسنان الأمامية البارزة في الضب".. ولذلك كانت تقول: "لم يقل لي أحد يوماً بأنني جميلة".
فهي إذاً تكره العريس أيضاً..، والله أعلم هل كانت تكره العرس نفسه، نعم، ستقول ذلك لاحقاً لزوجها الثاني أو الثالث.
حتى الدين، تكرهه وأظنها موبوءة بالكره والمرض.. تقول: "أما الدين فلا شيء جعلني أكرهه مثل المدرسين".
وهي لم تعد تؤمن بالشك.. بل أصبحت تؤمن بالعدم، تقول: "كبرت أكبر، وعرفت أن الروح لا تنفصل عن الجسم، ولا تعود بعد الموت، وقد تخلص عقلي من الخرافات..". وهي إذ كرهت الدين، ولم تؤمن به لم تعد تشك في قناعاتها، بل هي تؤمن وتعرف وتكتشف هذه الغيبيات، وليست تكتفي بالشك.. فهي لا تشكك بالدين، بل تطرح عقيدة بديلة، لا أدري كيف ستدعو إليها..
وهناك شيء آخر.. هي إذ تعد فكرة البعث خرافة.. تقول: "سِتّي الحاجة أورثتها جدتها الغزاوية روح "عشتار" أمّ الطبيعة والخصوبة، أو "نون" آلهة الكون الأنثى قبل ظهور الآلهة الذكر"، ويا سبحان الله، وتعالى الله.. بقدرة قادر، وتحت سنة قلم نوال السعداوي تغدو أخبار الأنبياء والمرسلين خرافات، على حين أن أخبار اليونان والفراعنة ليست خرافات ولا أساطير.
حسناً.. وعلى ذكر البعث تقول عن الفراعنة بكل صفاقة: "الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية، وهم سادة الحب والحرب.. الخ الخ"، ولا أدري هنا لماذا تصر على أن تقول: "الفراعنة المصريون".. و هل تخاف أن يكتشف العالم أن ثمة فراعنة سودانيين على سبيل المثال! ومادام أن البعث والتوحيد خرافة غبية، كما تريد نوال السعداوي أن تقول.. فالفراعنة الذين تعبدهم هم سادة الخرافة والغباء، وإذا كان البعث خرافة، كما تحب أن تقول نوال السعداوي.. وكانت الحياة والحب والجنس مخيبة للآمال مثل العمل الفدائي كما تقول.. فمتى ستتحرر.. وتعيش بكرامة؟
ونوال السعداوي تحب أن تؤكد بأنها تحفظ القرآن، ثم تتلو قصة آدم وحواء.. حتى تصل (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ) فتقول: "لماذا خلق الله العداوة بين آدم وحواء؟ ألأنهما أكلا من شجرة المعرفة؟" ولم تكلف حافظة القرآن نوال السعداوي نفسها بتأمل الآيات لتعرف أن البعض هنا هو الشيطان، والبعض الآخر هو آدم وحواء، وأن العداوة بين هذين الطرفين: آدم وحواء من جهة، والشيطان من جهة أخرى، وليس بين آدم وحواء.. لأن آيات القرآن الأخرى كلها تقول هذا..: (إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًّا).
وهي إذ تكره الناس حولها تقول عن أبيها الذي طالما تغنّت بأمجاده وقوّته: "مع كل ذلك مات أبي دون أن أبكي. لم أشعر في أعماقي بالحزن. إنه الفرح الغامض. كالسجين يتلقى نبأ الإفراج"، نعم فأبوها السجّان، وهي سجينة الكره الذاتي ومرض الاحتقار واللامبالاة والأنثوية، وهي أمراض تعجز عنها الطبيبة العضوية مثل د. نوال السعداوي.
وحين قرأت نوال السعداوي القرآن تقول: "لم يذكر الله اسم حواء، ولم يخاطبها إلاّ من خلال زوجها آدم، ولم يرد ذكر السيدة خديجة بحرف واحد، مع أنها أول من وضع الحجر الأساس في صرح الإسلام"، وإذا كان الأمر بهذه الطريقة فلا أدري كيف ستقول حين تعلم حافظة القرآن -نوال السعداوي- بأن مريم ذُكرت في القرآن (44) مرة، على حين أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- الذي هو سيد هذه الأمة لم يُذكر سوى أربع مرات.. فكيف ستقرأ الأشياء؟!
الفراعنة المصريون مرّة أخرى -حسب السعداوي- هم الذين صنعوا فكرة البعث بعد الموت، والحرب والحب.. وليس فقط الأهرامات! وهم الذين اخترعوا الطب والفلسفة.. بل والدين -حسب حديثها أيضاً-، حسناً.. يالله ما ذا سيفعل العالم..؟! إذاً سيقف على قدميه مرة واحدة ويرى كل شيء فرعوني.. وحضارات الأمم وشعوبها لم تكن إلاّ رقماً على الشمال.
نوال السعداوي.. أشهرت المشرط على زوجها الأول، وحاولت قتله؛ لأنه ظلمها بما فيه الكفاية.. فأقبلت عليه إلاّ أنها تراجعت في آخر لحظة.. والله أعلم أي فكرة كانت تخطر ببالها،.. وهل مرض الكره والإحساس بالاحتقار والمقت واللامبالاة وكره الأنوثة له علاقة بهذا.. الله أعلم.
نوال السعداوي.. لأنها تحفظ القرآن كما تقول تمارس مشاغل التأويل للقرآن بكل ثقة أيضاً فتقول: "هناك نص في القرآن لا يقبل التفسير ولا التأويل، خلقنا الله درجات، أي طبقات (لاحظ هي تبدأ ممارسة التفسير بكل ثقة واقتحام) طبقة فوق طبقة، طبقة أعلى وطبقة أدنى، وخلقنا الله من نفس واحدة ذكر وأنثى، لكن الذكر أعلى من الأنثى، وللرجال عليهن درجة"، ابتداءً أعترف بأن هذه النقول هي لنصوص مختلفة، ولكن النص المنقول (وللرجال عليهن درجة) هو عن شؤون إدارة البيت، وهذا أمر تكليفي لا تشريفي لأن الله يقول: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) ويقول: (وبما أنفقوا من أموالهم) إيضاحاً لهذه الدرجة الوظيفية.. ولا شك أن حافظ القرآن يعرف الآيات الأخرى هذه أيضاً.. ولم تحدثنا نوال السعداوي: هل فكرة الإدارة فكرة عنصرية أيضاً؟!
نوال.. رأت في والدها الرجل الكامل الكبير العظيم، وأحبت شخصيته، وقرأته من جانبه الذكوري، فأرادت أن تحارب ذكورته لصالح أنوثتها؛ لأنها تقرأ الكون من خلال الصراع بين الذكورة والأنوثة (الجندر)، ولم تقرأه من خلال المودة والرحمة.. فكانت حياتها سحقاً لهذا الحب وتأسيساً للكره.. والمرض.. والحقد.
ولذلك فهي مريضة بالكره.. إلى حد أن تكره نفسها حتى..
هي تكره الناس.. والمجتمع: "لا كرامة لنبي وسط أهله. أحياناً أدرك أن الحظ يحالفني لأنني أعيش ولم يغتلني أحد"،.. هاه.. وهي نبيّة أذاً !..ولكن لدعوة الناس إلى الإيمان بعشتار والآلهة الأنثى التي قبل الذكر؟! (سبحانه وتعالى عما يشركون).
هي تكره كل شيء متداول أو مسموح أو معروف أو مألوف.. ولذلك تحب أن تتغنى كثيراً أنها تكسر الثالوث المحرم: السياسة والجنس والدين، فكان عشقها منذ الصغر.. أي منذ صغر المرض فيها أن ترى اسمها فوق كتاب ممنوع، هكذا كانت تحلم، تقول بحروفها: "هل أرى اسمي فوق كتاب ممنوع؟ وأشق السماء بقلمي؟
وأجعلُ المطرَ رهنَ مشيئتي؟
والنهارَ والشعرَ والنثرَ
ينثالُ من خطيئتي،
فليحرقْني اللهُ في نار جهنم
ولتشربِ الأرض دمائي
لكني أبداً لن أموت".
في هذا النص تعرف السر: لماذا اتجهت للنبوة والدعوة وليس للشعر، فالنص المتهالك يقول لصاحبه دعني..
غير أنها ستموت، فهي تخاف الموت.
هي تنازع الموت النفسي.. وتعيش فقط لتحيا من أجل الكره.. فقط لتحارب اللامبالاة في داخلها.. تقول: "منذ وُلدت، وأنا أقاوم اللامبالاة في أوراقي وكتاباتي. اللامبالاة تنتقل إليّ كالعدوى".. فهي إذاً تكافح ضد الاحتقار، تشعر بالدونية، فتكره الأشياء حولها، وتكره الذكر، بل و الأنثى، وتكره نفسها..
ألم أقل هو مرض الكره؟!
قبل عشر سنوات وهي في الستين -حسب حروفها هي- تعيش منطقة انعدام الوزن، تجلس معلقة كالشعرة أو كالريشة.. وتظلم الأنثى ونفسها كثيراً كثيراً والله يقول:
(فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ويقول: (إن الله كان بكم رحيماً).